فصل: باب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب هَلْ تُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِى إِزَارِ الرَّجُلِ

- فيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ‏:‏ قال النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ‏:‏ ‏(‏فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى‏)‏، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَنَزَعَ إِزَارَهُ مِنْ حِقْوِهِ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ‏)‏‏.‏

لا خلاف بين العلماء أنه يجوز أن تكفن المرأة فى ثوب الرجل، والرجل فى ثوب المرأة، قال ابن المنذر‏:‏ أكثر العلماء يرى أن تكفن المرأة فى خمسة أثواب‏.‏

وفى المجموعة قال ابن القاسم‏:‏ الوتر أحب إلى مالك فى الكفن، وإن لم يوجد للمرأة إلا ثوبان لفت فيهما‏.‏

وقال أشهب‏:‏ لا بأس بالأكفان فى ثوب الرجل والمرأة‏.‏

وقال ابن شعبان‏:‏ المرأة فى عدد أثواب الأكفان أكثر من الرجل، وأقله لها خمسة‏.‏

وقال أبو حنيفة وجماعة‏:‏ أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسُّنة فيها خمسة‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ درع وخمار ولفافتان، لفافة تحت الدرع تلف بها، وأخرى فوقه، وثوب لطيف يشد على وسطها يجمع ثيابها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أشعرنها إياه‏)‏ أى اجعلنه يلى جسدها، والشعار الثوب الذى يلى الجسد عند العرب، وسيأتى تفسير الحَقْو فى باب الإشعار للميت، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب نَقْضِ شَعَرِ الْمَرْأَةِ

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ الْمَرْأَةِ‏.‏

- فيه‏:‏ أُمّ عَطِيَّةَ، أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ الرَسُول ثَلاثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ، ثُمَّ غَسَلْنَهُ، ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاثَةَ قُرُونٍ‏.‏

ناصيتها وقرنيها‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون‏)‏، وباب‏:‏ ‏(‏يلقى شعر المرأة خلفها‏)‏، وزاد فيه‏:‏ ‏(‏فضفرنا شعرها ثلاثة قرون فألقيناه خلفها‏)‏‏.‏

معنى نقض شعر المرأة، والله أعلم، لكى يبلغ الماء البشرة، ويعم الماء جميع جسدها، وتضفير شعرها بعد ذلك أحسن من استرساله وانتشاره، لأن التضفير يجمعه ويضمه‏.‏

وقال الشافعى، وأحمد‏:‏ يضفر رأس المرأة ثلاثة قرون‏:‏ ناصيتها وقرنيها، ثم يلقى خلفها على حديث أم عطية‏.‏

وهو قول ابن حبيب‏.‏

وقال ابن القاسم فى العتبية‏:‏ يلف شعر المرأة، وأما الضفر فلا أعرفه‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ يرسل من بين يديها من الجانبين جميعًا، ثم يسدل الخمار عليه‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ ليس مشط رأس الميتة بواجب، ولكن يفرق شعرها وترسله مع خديها‏.‏

وقول من تابع الحديث أولى، ولا حجة لمن خالفه‏.‏

باب كَيْفَ الإشْعَارُ لِلْمَيِّتِ‏؟‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ الْخِرْقَةُ الْخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الْفَخِذَيْنِ وَالْوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمّ عَطِيَّةَ، دَخَلَ عَلَيْنَا الرسول صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِى الآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فَآذِنَّنِى‏)‏، قَالَتْ‏:‏ فَلَمَّا فَرَغْنَا، أَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ‏)‏‏.‏

وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلا أَدْرِى أَىُّ بَنَاتِهِ‏.‏

وَزَعَمَ ابن سيرين أَنَّ الإشْعَارَ‏:‏ الْفُفْنَهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلا تُؤْزَرَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أشعرنها إياه‏)‏، فإنه أراد اجعلنه على جسدها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأنصار شعار، والناس دثار‏)‏، وقال ابن جريج‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ ما معنى أشعرنها إياه، أتؤزر‏؟‏ قال‏:‏ لا أراه إلا‏:‏ الففنها فيه‏.‏

كقول ابن سيرين‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فإذا لفت فيه مما يلى جسمها منه فهو شعار لها، وما فضل منه فتكرير لَفِّه عليها أستر لها من أن تؤزر فيه مطلقًا دون أن يلف عليها ما فضل منه، فلذلك فسر أن الإشعار أريد به لفها فى الإزار، وكان ابن سيرين أعلم التابعين، بغسل الموتى، هو وأيوب بعده‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أعطاها إزاره تبركًا بالنبى، و ‏(‏الحَقْوُ‏)‏ فى اللغة موضع عقد الإزار من الرَّجُل وهو الخصر، وقال صاحب العين‏:‏ هو الكشح والجمع أَحْقاء، والحقو أيضًا الإزار‏.‏

روى هذا كله فى الحديث، ففى هذا الحديث سمى الإزار حقوًا‏.‏

وفى باب‏:‏ هل تكفن المرأة فى إزار الرجل، سمى الحقو موضع عقد الإزار، فقال‏:‏ ‏(‏فنزع من حقوه إزاره‏)‏، فهذا شاهد لأهل اللغة، وقد استدل قوم من هذا الحديث أن غسل النساء للمرأة أولى من غسل زوجها لها، وهذا قول الشعبى، وأبى حنيفة، والثورى‏.‏

وقالوا‏:‏ إنما لم يجز غسلها، لأنه ليس فى عدة منها، ولو ماتت هى لم يمتنع من التزويج عقيب موتها، ولو مات هو لمنعت من التزويج حتى تخرج من عدتها‏.‏

وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏:‏ يغسل الرجل امرأته إذا ماتت، واحتجوا بأن فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم أوصت إلى زوجها على أن يغسلها‏.‏

وكان هذا بحضرة الصحابة، ولم ينكره منهم أحد، فصار إجماعًا‏.‏

واعتل الكوفيون بأن لزوجها أن يتزوج أختها، فلذلك لا يغسلها، لأنه إذا غسلها وقد تزوج أختها فقد جمع بينهما، وهذا لا حجة فيه، لأنها فى حكم الزوجة بدليل الموارثة، لا فى حكم المبتوتة، ويجوز لكل واحد منهما من صاحبه من النظر والمباشرة ما لا يجوز لغيرهما‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ والجمع بين الأختين إنما حرم منه الجمع بينهما بعقد النكاح والنظر إلى كل واحدة منهما بعين الشهوة واللذة، وهذا غير موجود فى مسألتنا، وأما إذا نظر إلى إحداهما على طريق الحرمة المتقدمة، فهو جائز كمن ينظر إلى أختيه من الرضاع، وإلى أختين مملوكتين‏.‏

وأما غسل المرأة زوجها فهو إجماع لا خلاف فيه‏.‏

وقول المحدث‏:‏ لا أدرى أى بناته‏.‏

فقد روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت‏:‏ توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا‏)‏، وقال بعض أهل السير‏:‏ هى أم كلثوم‏.‏

باب الثِّيَابِ الْبِيضِ لِلْكَفَنِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيها قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏الكفن بغير قميص‏)‏، وباب‏:‏ ‏(‏الكفن بغير عمامة‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خير ثيابكم البياض، فألبسوها أحياءكم، وكفنوا بها موتاكم‏)‏، والسحولية‏:‏ البيض، والسحل‏:‏ الثوب الأبيض، وقيل‏:‏ إن ‏(‏سحول‏)‏ قرية باليمن تصنع ثياب القطن، وتنسب إليها، والكرسف‏:‏ القطن، والفقهاء يستحبون فى الكفن ما فى هذا الحديث، ولا يرون فى الكفن شيئًا واجبًا لا يتعدى، وما ستر العورة أجزأ عندهم‏.‏

قال مالك‏:‏ ليس فى كفن الميت حدّ، ويستحب الوتر، وقال مرة‏:‏ لا أحب أن يكفن فى أقل من ثلاثة أثواب‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ لا يستحب القميص فى الكفن، والسُّنَّة تركه‏.‏

وبه قال الشافعى‏.‏

وروى يحيى عن ابن القاسم فى العتبية أنه لا يقمص الميت، ولا يعمم، ويدرج فى ثلاثة أثواب بيض إدراجًا، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم وكان جابر بن عبد الله، وعطاء لا يعممان الميت‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا بأس بالقميص، والعمامة فى الكفن‏.‏

روى ذلك عن ابن عمر‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ استحب مالك للرجل خمسة أثواب يعد فيها القميص والعمامة والمئزر، ويلف فى ثوبين، وقال فى المدونة‏:‏ من شأن الميت أن يعمم عندنا‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا بأس أن يكفن فى قميص‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ليس فيها قميص ولا عمامة‏)‏ يدل أن القميص الذى غسل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم نزع عنه حين كفن، لأنه إنما قيل‏:‏ لا تنزعوا القميص ليستر به، ولا يكشف جسده، فلما ستر بالكفن استغنى عن القميص، ولو لم ينزع القميص حين كفن لخرج عن حد الوتر الذى أمر به النبى صلى الله عليه وسلم واستحسنه فى غير ما شىء استشعارًا للتوحيد، وكانت تكون أربعة بالثوب المبلول، ويستبشع أن يكفن على قميص مبلول‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال‏:‏ ‏(‏كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاثة أثواب‏:‏ قميصه الذى مات فيه، وحلة نجرانية‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ هذا حديث انفرد به يزيد بن أبى زياد، وهو لا يحتج به لضعفه، وحديث عائشة أصح، الذى نفت عنه القميص‏.‏

باب الْكَفَنِ فِى ثَوْبَيْنِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَيْنَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ؛ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِى ثَوْبَيْنِ، وَلا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا‏)‏‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏الحنوط للميت‏)‏، وقال فيه‏:‏ ‏(‏فأقصعته، أو قال‏:‏ فأقعصته‏)‏، وترجم له باب‏:‏ ‏(‏كيف يكفن المحرم‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال مالك، وأبو حنيفة‏:‏ لا أحب لأحد أن يكفن فى أقل من ثلاثة أثواب، وإن كفن فى ثوبين فحسنٌ على ظاهر قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كفنوه فى ثوبيه، ولا تمسوه طيبًا، ولا تخمروا رأسه‏)‏، وإنما ترجم له باب الحنوط للميت، لأنه لما قال فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏لا تحنطوه‏)‏، وكان محرمًا استدل البخارى من هذا أنه إذا لم يكن محرمًا أنه يحنط‏.‏

واختلف العلماء كيف يكفن المحرم، فقال الشافعى، وأحمد بن حنبل‏:‏ يكفن المحرم، ولا يغطى رأسه، ولا يقرب طيبًا، لأن حكم إحرامه باق‏.‏

وهو قول علىّ، وابن عباس على ظاهر هذا الحديث‏.‏

وقال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعى‏:‏ يفعل بالمحرم ما يفعل بالحلال‏.‏

وهو قول عثمان، وعائشة، وابن عمر‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والحجة لهذا القول قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، فدل أن بموته تنقطع العبادة، وقد كفن ابن عمر ابنه، وخمر رأسه يوم مات، وهو محرم، وقال‏:‏ لولا أنا حرم لطيبناه، وهذا يدل أن الحديث خاص فى ذلك الرجل بعينه‏.‏

قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا‏)‏، كما قال فى الشهداء، فإن الشهيد يبعث يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح مسكٍ، فأخبر عن حال كل من استحق الشهادة، ثم خص جعفر لما قطعت يداه، فقال‏:‏ ‏(‏له جناحان يطير بهما فى الجنة‏)‏، ولم يقل ذلك فى غيره ممن قطعت يداه من الشهداء، فلذلك خَصَّ ذلك المحرم الذى وقص دون غيره‏.‏

ويمكن أن يكون ذلك خصوصًا له من أجل أن الله تقبل حجه، ولا يعلم أحدٌ بعد الرسول هل تقبل الله حج غيره ممن يموت محرمًا‏؟‏ ولذلك غسل ابن عمر ابنه بالجحفة، وخمر رأسه ووجهه، إذ لم يعلم هل تقبل الله حجهُ‏؟‏ ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل كَلْمٍ يكلمه المسلم فى سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم فى سبيله‏)‏، فأخبر أن ليس كل مكلوم يأتى جرحه اللون لون دم والريح ريح مسك، وإنما ذلك لمن خلصت نيته وجهاده لله، لا لجميع المكلومين‏.‏

وقال ابن المنذر فى قوله‏:‏ ‏(‏كفنوه فى ثوبيه‏)‏ دليل أن الكفن من رأس المال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فوقصته‏)‏ تقول للعرب‏:‏ وقص الشىء وقصًا كسر‏.‏

ولم أجد فى اللغة ‏(‏أوقصه‏)‏ اللفظة التى شك فيها المحدث، والقصع‏:‏ القتل، والماء يقصع العطش، أى يقتله وقصع القملة‏:‏ قتلها، والقعص‏:‏ القتل المعجل‏.‏

باب الْكَفَنِ فِى الْقَمِيصِ الَّذِى يُكَفُّ أَوْ لا يُكَفُّ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ لَمَّا تُوُفِّىَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ أَعْطِنِى قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، فَقَالَ‏:‏ آذِنِّى أُصَلِّى عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَيْهِ، جَذَبَهُ عُمَرُ، فَقَالَ‏:‏ أَلَيْسَ اللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّىَ عَلَى الْمُنَافِقِين‏؟‏ َ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابر، أَتَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى هذين الحديثين دليل على جواز الكفن فى القميص على ما ذهب إليه أبو حنيفة، واحتج أصحابه بقصة عبد الله ابن أُبَىّ هذه‏.‏

وقال أصحاب مالك‏:‏ إنما دفع النبى صلى الله عليه وسلم إليه القميص، لأنه كانت لعبد الله بن أُبَىّ يدٌ عند النبى صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يوم بدر أتى بأسارى، وكان العباس فى جملتهم، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبى صلى الله عليه وسلم له قميصًا، فوجدوا قميص عبد الله بن أبى يقدر عليه، فكساه النبى إياه، قال ابن عيينة‏:‏ فكافأه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن كفنه فى قميصه رجاء أن يخفف عنه من عذابه ما دام ذلك القميص عليه، ورجاء أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يظهره من الإسلام فينفعه الله بذلك، ويدل على ذلك أن الله إنما أعلمه بأمره، ونهاه عن الصلاة عليه، وعلى غيره بعدما صلى عليه، وأما حين صلى عليه لم يعلم حقيقة أمره ولا باطنه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله فى الترجمة‏:‏ الكفن فى القميص الذى يُكفَ أولا يُكفَ‏.‏

إنما صوابه ‏(‏يكفى‏)‏ بإثبات الياء، ومعناه طويلاً كان ذلك القميص أو قصيرًا، فإنه يجوز الكفن فيه، وكان عبد الله بن أُبَىّ طويلاً، ولذلك كسا العباسَ قميصه، وكان العباس بائن الطول‏.‏

باب الْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ

وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِىُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ‏:‏ الْحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْوَصِيَّةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ‏:‏ أَجْرُ الْقَبْرِ وَالْغَسْلِ هُوَ مِنَ الْكَفَنِ‏.‏

- فيه‏:‏ أن عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أُتِىَ يَوْمًا بِطَعَام، فَقَالَ‏:‏ قُتِلَ مُصْعَبُ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ خَيْرًا، مِنِّى، فَلَمْ نجد لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ، أَوْ رَجُلٌ آخَرُ، خَيْرٌ مِنِّى، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِى حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِى‏.‏

وترجم له باب ‏(‏إذا لم يوجد إلا ثوب واحد‏)‏‏.‏

ذهب جمهور العلماء إلى أن الكفن من رأس المال، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، فقال‏:‏ إنه من الثلث‏.‏

يُروى ذلك عن جلاس بن عمرو، وروى فيه عن طاوس شذوذ آخر، قال‏:‏ إن كان المال كثيرًا فهو من رأس المال، وإن كان يسيرًا فهو من الثلث‏.‏

وهذا الحكم لا دليل عليه‏.‏

قال المهلب‏:‏ والحجة الواضحة للجماعة أن مصعب بن عمير، وحمزة لم يوجد لكل واحد منهما ما يكفن فيه، إلا بردة قصيرة، كفنه فيها رسول الله، ولم يلتفت إلى غريم ولا إلى وصية، ولا وارث، وبدَّاه على ذلك كله، فدل أنه من رأس المال، وقاله ابن المنذر‏.‏

وفيه‏:‏ جواز التكفين فى ثوب واحد عند عدم غيره كما ترجم له، والأصل فى ذلك ستر العورة، وإنما استحب لهما النبى صلى الله عليه وسلم التكفين فى تلك الثياب التى ليست بسابغة لأنهم فيها قُتلوا، وفيها يبعثون إن شاء الله‏.‏

واختلفوا فى كفن المرأة ذات الزوج تموت، فقال الشعبى، وأحمد بن حنبل‏:‏ كفنها من مالها‏.‏

وقال مالك‏:‏ كفنها على زوجها إن لم يكن لها مال‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ هو على الزوج، وإن كان لها مال كالنفقة‏.‏

قال ابن حبيب، عن مالك مثل قول ابن الماجشون‏.‏

وقال أصبغ‏:‏ لا يكفنها فقيرة كانت أو مَلِيَّة‏.‏

وفى حديث عبد الرحمن من الفقه أن العالم ينبغى له أن يُذَكّر بسير الصالحين، وتقللهم من الدنيا لتقل رغبته فيها، ويبكى من تأخُّر لحاقه بالأخيار ويشفق من ذلك، ألا ترى أنه بكى وترك الطعام‏.‏

وفيه‏:‏ أنه ينبغى للمرء أيضًا أن يذكر نعم الله عنده، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها، ويتخوف أن يُقَاصَّ بها فى الآخرة، ويذهب سعيه فيها‏.‏

وقال عبد الواحد‏:‏ إن قال قائل‏:‏ لِمَ بكى عبد الرحمن وقد ضمن له النبى الجنة، وهو أحد العشرة‏؟‏ قيل له‏:‏ كان الصحابة مشفقين خائفين من طول الحساب والوقوف له، مستصغرين لأنفسهم، راغبين فى إعلاء الدرجات، وإن كانت الجنة قد ضمنت لهم، فلذلك كانوا يبكون خوفًا من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى، ومن طول الحساب، والله أعلم‏.‏

باب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلا مَا يُوَارِى به رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ

- فيه‏:‏ خَبَّاب، هَاجَرْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلا بردًا، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذْخِرِ‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفيه دليل أن الثوب إذا ضاق فتغطية رأس الميت أولى أن يبدأ به من رجليه‏.‏

وقال المهلب‏:‏ إنما أمره صلى الله عليه وسلم بتغطية الأفضل إذا أمكن ذلك بعد ستر العورة، ولو ضاق الثوب عن تغطية رأسه وعورته لغطيت بذلك عورته، وجعل على سائره من الإذخر، لأن ستر العورة واجب فى حال الموت والحياة، والنظر إليها ومباشرتها باليد تحرم إلا من أحل الله له ذلك من الزوجين‏.‏

وفى هذا الحديث ما كان عليه صدر هذه الأمة من الصدق فى وصف أحوالهم، ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏(‏فمنا من لم يأكل من أجره شيئًا‏)‏، يعنى يكسب من الدنيا شيئًا، ولا اقتناه، وقصر نفسه عن شهواتها لينالها متوفرة فى الآخرة، و ‏(‏منا من أينعت له ثمرته‏)‏، يعنى من كسب المال، ونال من عرض الدنيا‏.‏

وفى هذا الحديث أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار ودرجات الأخيار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يهدبها‏)‏ يقال‏:‏ هدبت الثمرة‏:‏ جنيتها، وهدبت كل حلوبة‏:‏ حلبتها بأطراف الأصابع‏.‏

باب مَنِ اسْتَعَدَّ الْكَفَنَ فِى زَمَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ

- فيه‏:‏ سَهْل بن سعد، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، قَالَتْ‏:‏ نَسَجْتُهَا بِيَدِى، فَجِئْتُ لأكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلانٌ، فَقَالَ‏:‏ اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ الْقَوْمُ‏:‏ مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِىُّ،- عليه السلام-، مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ قَالَ‏:‏ إِنِّى وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لألْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِى‏.‏

قَالَ سَهْلٌ‏:‏ فَكَانَتْ كَفَنَهُ‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ جواز إعداد الشىء قبل الحاجة إليه، وقد حفر قوم من الصالحين قبورهم بأيديهم ليمثلوا حلول الموت فيهم، وأفضل ما ينظر فيه فى وقت المهل وفسحة الأجل الاستعداد للمعاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل المؤمنين إيمانًا أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم له استعدادًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه قبول السلطان للهدية من الفقير‏.‏

وفيه ترك مكافأته عليها بخلاف قول من قال إن هدية الفقير للمكافأة‏.‏

وفيه أنه يسأل السلطان الفاضل والرجل العالم الشىء الذى له القيمة للتبرك به‏.‏

باب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ

- فيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّةَ، نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روينا عن ابن مسعود، وابن عمر، وأبى أمامة، وعائشة أنهم كرهوا للنساء اتباع الجنائز، وكره ذلك أبو أمامة، ومسروق، والنخعى، والحسن، ومحمد بن سيرين، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال الثورى‏:‏ اتباع النساء الجنازة بدعة‏.‏

وروى جواز اتباع النساء الجنازة عن ابن عباس، والقاسم، وسالم، وعن الزهرى، وربيعة، وأبى الزناد مثله، ورخص مالك فى ذلك، وقال‏:‏ قد خرج النساء قديمًا فى الجنائز، وخرجت أسماء تقود فرس الزبير، وهى حامل، وقال‏:‏ ما أرى بخروجهن بأسًا إلا فى الأمر المستنكر‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد احتج من كره ذلك بحديث أم عطية‏.‏

قال المؤلف‏:‏ واحتج به من أجاز ذلك أيضًا‏.‏

وقال المهلب‏:‏ هذا الحديث يدل على أن النهى من النبى صلى الله عليه وسلم على درجات، فيه نهى تحريم، ونهى تنزيه، ونهى كراهية، وإنما قالت أم عطية‏:‏ ‏(‏ولم يعزم علينا‏)‏ لأنها فهمت من النبى صلى الله عليه وسلم أن ذلك النهى إنما أراد به ترك ما كانت الجاهلية تقوله من الهجر وزور الكلام وقبيحه، ونسبة الأفعال إلى الدهر، فهى إذا تركت ذلك وبدلت منه الدعاء والترحم عليه كان خفيفًا، فهذا يدل أن الأوامر تحتاج إلى معرفة تلقى الصحابة لها، وينظر كيف تلقوها‏.‏

باب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا

- فيه‏:‏ أمّ عَطِيَّة، تُوُفِّيَ ابْن لها، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، دَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَتَمَسَّحَتْ بِهِ، وَقَالَتْ‏:‏ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ إِلا بِزَوْجٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِى سَلَمَةَ، قَالَتْ‏:‏ لَمَّا جَاءَ نَعْىُ أَبِى سُفْيَانَ مِنَ الشَّأْمِ، دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بعَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ‏:‏ إِنِّى كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً، لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا‏)‏‏.‏

الإحداد‏:‏ ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والحلى والكحل، وكل ما كان من دواعى الجماع، يقال‏:‏ امرأة حادّ ومحدّ‏.‏

وأباح النبى صلى الله عليه وسلم أن تحد المرأة على غير زوجها من ذوى محارمها ثلاثة أيام، لما يغلب من لوعة الحزن، ويهجم من أليم الوجد، ولم يوجب ذلك عليها، وهذا مذهب الفقهاء، وحرم عليها من الإحداد ما فوق ذلك‏.‏

ومما يدل على أن الإحداد فى الثلاثة أيام على غير الزوج غير واجب إجماع العلماء على أن من مات أبوها، أو ابنها، وكانت ذات زوج، وطالبها زوجها بالجماع فى الثلاثة الأيام التى أبيح لها الإحداد فيها أنه يقضى له عليها بالجماع فيها، ونص التنزيل أن الإحداد على ذوات الأزواج أربعة أشهر وعشرًا واجب‏.‏

باب زِيَارَةِ الْقُبُورِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ مَرَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اتَّقِى اللَّهَ، وَاصْبِرِى‏)‏، قَالَتْ‏:‏ إِلَيْكَ عَنِّى، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِى، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا‏:‏ إِنَّهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَتْ بَابَ الرسول فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ‏:‏ لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى‏)‏‏.‏

كره قوم زيارة القبور، لأنه روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث فى النهى عنها، وقال الشعبى‏:‏ لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتى‏.‏

قال إبراهيم النخعى‏:‏ كانوا يكرهون زيارة القبور‏.‏

وعن ابن سيرين مثله‏.‏

ثم وردت أحاديث بنسخ النهى، وإباحة زيارتها، روى ابن أبى شيبة، عن عبد الرحيم ابن سليمان، عن يحيى بن الحارث، عن عمرو بن عامر، عن أنس بن مالك، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور، ثم قال‏:‏ ‏(‏زوروها ولا تقولوا هُجرًا‏)‏‏.‏

وروى معمر، عن عطاء الخراسانى، قال‏:‏ حدثنى عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنى كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة‏)‏‏.‏

وروى من حديث ابن مسعود عن النبى، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وحديث أنس فى هذا الباب يشهد لصحة أحاديث الإباحة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما عرض على المرأة الباكية الصبر ورغبها فيه، ولم ينكر عليها جلوسها عنده، ولا نهاها عن زيارته، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يترك أحدًا يستبيح ما لا يجوز بحضرته ولا ينهاه، لأن الله تعالى فرض عليه التبليغ والبيان لأمته، فحديث أنس وشبهه ناسخ لأحاديث النهى فى ذلك، وأظن الشعبى والنخعى لم تبلغهم أحاديث الإباحة، والله أعلم‏.‏

وكان النبى صلى الله عليه وسلم يأتى قبور الشهداء عند رأس الحول، فيقول‏:‏ ‏(‏السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏)‏‏.‏

وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان يفعلون ذلك‏.‏

وزار النبى صلى الله عليه وسلم قبر أمه يوم فتح مكة فى ألف مُقَنَّعٍ‏.‏

ذكره ابن أبى الدنيا، وذكر ابن أبى شيبة، عن على، وابن مسعود، وأنس بن مالك، إجازة زيارة القبور‏.‏

وكانت فاطمة تزور قبر حمزة كل جمعة‏.‏

وكان ابن عمر يزور قبر أبيه، فيقف عليه ويدعو له‏.‏

وكانت عائشة تزور قبر أخيها عبد الرحمن وقبره بمكة‏.‏

ذكر ذلك كله عبد الرزاق‏.‏

وقال ابن حبيب‏:‏ لا بأس بزيارة القبور والجلوس إليها، والسلام عليها عند المرور بها، وقد فعل ذلك النبى صلى الله عليه وسلم وفى ‏(‏المجموعة‏)‏‏:‏ قال على بن زياد‏:‏ سئل مالك عن زيارة القبور، فقال‏:‏ قد كان نهى عليه السلام، ثم أذن فيه، فلو فعل ذلك إنسان، ولم يقل إلا خيرًا، لم أر بذلك بأسًا‏.‏

وروى عنه أنه كان يضعف زيارتها، وقوله الذى تعضده الآثار وعمل به السلف أولى بالصواب، والأمة مجمعة على زيارة قبر الرسول، وأبى بكر، وعمر، ولا يجوز على الإجماع الخطأ، قاله المهلب‏.‏

وكان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه‏.‏

رواه معمر، عن أيوب، عن نافع‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومعنى النهى عن زيارة القبور، إنما كان فى أول الإسلام عند قربهم بعبادة الأوثان، واتخاذ القبور مساجد، والله أعلم، فلما استحكم الإسلام، وقوى فى قلوب الناس، وأمنت عبادة القبور والصلاة إليها، نسخ النهى عن زيارتها، لأنها تذكر الآخرة وتزهد فى الدنيا‏.‏

وقد حدثنا أبو المطرف القنازعى، قال‏:‏ حدثنا أبو محمد بن عثمان، قال أبو عبد الله الشبلى الزاهد‏:‏ حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا موسى بن معاوية، عن يحيى بن يمان، عن طاوس، قال‏:‏ كانوا يستحبون ألا يتفرقوا عن الميت سبعة أيام، لأنهم يفتنون ويحاسبون فى قبورهم سبعة أيام‏.‏

وفى حديث أنس ما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بالجاهل، لأنه لم ينهر المرأة حين قالت له‏:‏ إليك عنى، وعذرها بمصيبتها‏.‏

وإنما لم يتخذ بوابين، لأن الله تعالى أعلمه أنه يعصمه من الناس‏.‏

وفيه أنه من اعتذر إليه بعذر لائح أنه يجب عليه قبوله‏.‏

باب قَوْلِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ‏)‏

إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ‏)‏، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ ‏(‏لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏ وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، وَذَلِكَ لأنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أُسَامَة، قَالَ‏:‏ أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ، فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلامَ، وَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، ولِلَّه مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ‏)‏، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى النبى صلى الله عليه وسلم الصَّبِىُّ، وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ- قَالَ‏:‏ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَأَنَّهَا شَنٌّ‏)‏- فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ‏:‏ فَرَأَيْتُ عَيْنَاهِ تَدْمَعَانِ، قَالَ‏:‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ‏؟‏‏)‏، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ‏:‏ أَنَا، قَالَ‏:‏ فَانْزِلْ، قَالَ‏:‏ فَنَزَلَ فِى قَبْرِهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن أَبِى مُلَيْكَةَ، قَالَ‏:‏ تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بِمَكَّةَ، وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنِّى لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ قَالَ‏:‏ جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِى، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ‏:‏ أَلا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ‏:‏ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ، قَالَ‏:‏ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ادْعُهُ لِى، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ، فَقُلْتُ‏:‏ ارْتَحِلْ، فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ، دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِى، يَقُولُ‏:‏ وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِى عَلَىَّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ‏:‏ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ‏:‏ حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ‏)‏ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏(‏قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ وَاللَّهُ‏)‏ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 43‏]‏‏.‏

قَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا‏.‏

قَالَتْ عائشة‏:‏ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ، يَبْكِى عَلَيْهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِى قَبْرِهَا‏)‏‏.‏

- وفى كتاب المغازى‏:‏ قالت عائشة‏:‏ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه‏)‏‏.‏

اختلف أهل العلم فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يعذب الميت ببكاء أهله عليه‏)‏، فقالت طائفة‏:‏ معناه أن يوصى بذلك الميت، فيعذب حينئذ بفعل نفسه لا بفعل غيره، وإليه ذهب البخارى فى قوله‏:‏ إذا كان النوح من سنته، يعنى أن يوصى بذلك، وهو قول أهل الظاهر، وأنكروا قول عائشة، وأخذوا بحديث عمر، وابن عمر، والمغيرة أن الميت يعذب بما نيح‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناه أن يمدح الميت فى ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية من الفتكات والغارات والقدرة على الظلم، وغير ذلك من الأفعال التى هى عند الله ذنوب، فهم يبكون لفقدها ويمدحونه بها، وهو يعذب من أجلها‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناه أن الميت ليعذب ويحزن ببكاء أهله عليه، ويسوؤه إتيان ما يكره ربه، واحتجوا بحديث قَيْلَةَ حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت‏:‏ بكيتُ ثم قلت‏:‏ والله يا رسول الله، لقد ولدته حرامًا، فقاتل معك يوم الربذة، ثم ذهب يمترى لى من خيبر فأصابته حمى فمات‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو لم تكونى مسكينة لجررناك اليوم على وجهك، أتُغلب إحداكن على أن تصاحب صويحبةَ فى الدنيا معروفًا، حتى إذا حال بينه وبينه من هو أولى به، استرجع، فقال‏:‏ رب أثبنى بما أمضيت، وأعنى على ما أبقيت، والذى نفس محمد بيده، إن إحداكن لتبكى فتستعين إليه صويحبة، فيا عباد الله، لا تعذبوا أمواتكم‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والدليل على أن بكاء الحى على الميت تعذيب من الحى له، لا تعذيب من الله ما رواه عوف عن جلاس بن عمرو، عن أبى هريرة، قال‏:‏ ‏(‏إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم ليستخبرون الميت إذا أتاهم‏:‏ من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته هل تزوجت أم لا‏)‏‏.‏

وروى محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن يوسف بن ماهك، قال‏:‏ كان ابن عمر فى جنازة رافع بن خديج بين قامتى السرير، فقال‏:‏ إن الميت ليعذب ببكاء الحى، فقال ابن عباس‏:‏ إن الميت لا يعذب ببكاء الحى‏.‏

وذهبت عائشة إلى أن أحدًا لا يعذب بفعل غيره، وهو أمر مجتمع عليه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى ‏(‏‏)‏ ولا تكسب كل نفس إلا عليها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏‏.‏

وكل حديث أتى فيه النهى عن البكاء فمعناه النياحة عند العلماء، لأن الله تعالى أضحك وأبكى، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب‏)‏‏.‏

وقال الرسول لعمر إذ نهى النساء عن البكاء‏:‏ ‏(‏دعهن يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب‏)‏‏.‏

ونهى عن النياحة، ولعن النائحة والمُشِقَّة، وهى عن شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعوى الجاهلية‏.‏

وفى حديث أسامة، وأنس فى هذا الباب جواز البكاء الخفيف بدمع العين، قال الشافعى‏:‏ أرخص فى البكاء بلا ندبة، ولا نياحة، وما ذهبت إليه عائشة أشبه بدلائل الكتاب، وما زيد فى عذاب الكافر باستحقاقه لا بذنب غيره، لأنه إذا بُكى عليه بذكر فتكاته وغاراته فهو مستحق للعذاب بذلك، وأهله يَعُدُّون ذلك من فضائله وهو يعذب من أجلها، فإنما يعذب بفعله لا ببكاء أهله، هذا معنى قول عائشة‏:‏ إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، وهو موافق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى ‏(‏وتصويب الشافعى لقول عائشة، وإنكارها على ابن عمر يشبه أن يكون مذهب مالك، لدلالة ما فى موطئه عليه لأنه ذكر حديث عائشة، ولم يذكر خلافه عن أحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ونفسه تقعقع‏)‏ القعقعة‏:‏ حكاية أصوات الرعد والجلود اليابسة وما أشبه ذلك، ورجل قعقاع وقعقعان، وهو الذى يسمع لمفاصل رجليه تقعقعًا، عن صاحب ‏(‏العين‏)‏، والشن‏:‏ القربة اليابسة، ومن أمثالهم‏:‏ أَلِمْثِلِى يقعقع بالشأن، يريد أن مثلى لا يفزع بذلك‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِى سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ، أَوْ لَقْلَقَةٌ، وَالنَّقْعُ‏:‏ التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ‏:‏ الصَّوْتُ‏.‏

- فيه‏:‏ الْمُغِيرَةِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ‏)‏، ورواه عمر عن الرسول‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِرَ، قَالَ‏:‏ جِىءَ بِأَبِى يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ مُثِّلَ بِهِ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ سُجِّىَ ثَوْبًا، فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ، فَنَهَانِى قَوْمِى، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ، فَنَهَانِى قَوْمِى، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُفِعَ، فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذِهِ‏؟‏‏)‏ فَقَالُوا‏:‏ ابْنَةُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَلِمَ تَبْكِى، أَوْ لا تَبْكِى، فَمَا زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ النوح محرم، لأنه من دين الجاهلية، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يشترط على النساء فى مبايعتهن على الإسلام ألا يَنُحْن، وهذا الباب يدل على أن النهى عن البكاء على الميت إنما هو إذا كان فيه نوح، ويدل على جواز البكاء بغير نوح قول عمر‏:‏ دعهن يبكين ما لم يكن نقع أو لقلقة، فأباح لهن البكاء بغير نوح، وحديث المغيرة حجة لذلك، لشرطه صلى الله عليه وسلم فيه أنه يعذب بما نيح عليه، فدليله أن البكاء بغير نوح لا عذاب فيه، وحديث جابر نص فى ذلك، لأن زوجة جابر بكت عليه بحضرة الرسول، فلم يزد على أكثر من تسليتها بقوله‏:‏ ‏(‏إن الملائكة أظلته بأجنحتها حتى رفع‏)‏، فسلاها عن حزنها عليه بكرامة الله له، ولم يقل لها أنه يعذب ببكائك عليه‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ إن قيل‏:‏ كيف أباح عمر لنسوة خالد البكاء عليه ما لم يكن نقع، أو لقلقة، ونهى صُهيبًا عن البكاء عليه فى الباب الذى قبل هذا‏؟‏ فالجواب‏:‏ إنما نهى صهيبًا، لرفعه لصوته بقوله‏:‏ وا أخاه، وا صاحباه، وخشى أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهى عنه‏.‏

باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ

- فيه‏:‏ عَنْ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ‏)‏‏.‏

وترجم له باب ‏(‏ليس منا من ضرب الخدود‏)‏، وباب ‏(‏ما ينهى عنه من الويل ودعوى الجاهلية‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏ليس منا‏)‏ أى ليس متأسيًا بسنتنا، ولا مقتديًا بنا، ولا ممتثلاً لطريقتنا التى نحن عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من غشنا‏)‏ لأن لطم الخدود وشق الجيوب من أفعال الجاهلية‏.‏

وقال الحسن فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك فى معروف‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏، قال‏:‏ لا ينحن، ولا يشققن، ولا يخمشن، ولا ينشرن شعرًا، ولا يدعون ويلاً‏.‏

وقد نسخ الله ذلك بشريعة الإسلام، وأمر بالاقتصاد فى الحزن والفرح، وترك الغلو فى ذلك، وحَضَّ على الصبر عند المصائب واحتساب أجرها على الله، وتفويض الأمور كلها إليه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏، فحق على كل مسلم مؤمن عَلِمَ سرعة الفناء ووشك الرحيل إلى دار البقاء ألا يحزن على فائت من الدنيا، وأن يستشعر الصبر والرضا، لينال هذه الدرجات الرفيعة من ربه، وهى الصلاة والرحمة والهدى، وفى واحد من هذه المنازل سعادة الأبد، وهبنا الله الصبر والرضا بالقضاء إنه كريم وهاب‏.‏

باب رِثَاءِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لسعْدَ بْنَ خَوْلَةَ

- فيه‏:‏ سَعْدِ، عادنِى النّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابِى هِجْرَتَهُمْ، وَلا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ‏)‏‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏يرثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة‏)‏ من قول سعد فى بعض الطرق، وأكثر الطرق أنه من قول الزهرى، وليس هو من قول الرسول، وسعد بن خولة زوج سبيعة الأسلمية، وإنما توجع له إذا مات بمكة فى الأرض التى هاجر منها، وكان يحب له أن يموت فى مهاجره المدينة، ولذلك قال عمر‏:‏ اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك، ووفاة ببلد رسولك‏.‏

لأنه حرام على المهاجر الرجوع إلى وطنه الذى هجره لله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يبقين مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث‏)‏‏.‏

وكان عثمان وغيره لا يطوفون طواف الوداع، إلا ورواحلهم قد رُحِّلَت، وذكر البخارى أن سعد بن خولة شهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وأنه من المهاجرين، خلاف قول عيسى بن دينار الذى قال‏:‏ إنه أسلم ولم يهاجر، وكان من مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا ابن خمس وعشرين سنة، وشهد أحدًا، والخندق، والحديبية، وتوفى بمكة عند زوجته سبيعة الأسلمية فى حجة الوداع وهى حامل، ثم وضعت بعد موته بليال فتمت عدتها، ذكره مسلم عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن أبى حبيب، قال‏:‏ توفى سعد بن خولة فى حجة الوداع‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ مات سعد بن خولة بمكة سنة سبع فى الهدنة التى كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة عام الحديبية، فخرج سعد بن خولة مجتازًا لا لحج ولا لجهاد، لأنه لم يفرض حينئذ الحج، وأما سعد بن أبى وقاص، فإنما خرج إلى مكة حاجًا، ولو مات فيها لم يكن فى معنى سعد بن خولة الذى رثى له النبى صلى الله عليه وسلم لأن من خرج لفرض وجب عليه وأدركه أجله فلا حرج عليه، ولا إثم، ولا يقال له‏:‏ بائس، ولا يسمى تارك لدار هجرته‏.‏

وروى عن الأعرج قال‏:‏ خَلَّف النبى صلى الله عليه وسلم على سعد رجلاً، وقال‏:‏ ‏(‏إن مات بمكة فلا تدفنه بها‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اللهم امض لأصحابى هجرتهم‏)‏، أى تردهم إلى المدينة دار الهجرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا تردهم على أعقابهم‏)‏ يقال‏:‏ لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه‏:‏ رجع على عقبه وحَارَ، ومنه قوله‏:‏ أعوذ بك من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، أى من النقصان بعد الزيادة‏.‏

باب مَا يُنْهَى مِنَ الْحَلْقِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏برئ منه‏)‏ أى لم يرض بفعله فهو منه برئ فى وقت ذلك الفعل، لا أنه برئ من الإسلام، وقال صاحب ‏(‏الأفعال‏)‏‏:‏ حلقت المرأة عند المصيبة‏:‏ ولولت، والصلق‏:‏ شدة الصوت، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏ليس منا من صلق، أو حلق عند المصيبة‏)‏‏.‏

والحالق‏:‏ التى تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة‏:‏ التى تشق ثيابها‏.‏

باب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، لَمَّا قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٍ، وَابْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ- شَقِّ الْبَابِ- فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏انْهَهُنَّ‏)‏، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ‏)‏، فَقُلْتُ‏:‏ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ إن قال قائل‏:‏ إن أحوال الناس فى الصبر متفاوتة، فمنهم من يظهر حزنه على المصيبة فى وجهه بالتغير له، وفى عينيه، بانحدار الدموع، ولا ينطق بالسيئ من القول، ومنهم من يظهر ذلك فى وجهه، وينطق بالهُجْر المنهى عنه، ومنهم من يجمع ذلك كله، ويزيد عليه إظهاره فى مطعمه وملبسه، ومنهم من يكون حاله فى حال المصيبة، وقبلها سواء، فأيهم المستحق اسم الصبر‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ قد اختلف السلف قبلنا فى ذلك، فقال بعضهم‏:‏ المستحق اسم الصبر الذى يكون فى حال المصيبة مثله قبلها، ولا يظهر عليه خرم فى جارحة ولا لسان‏.‏

قال غيره‏:‏ كما زعمت الصوفية، أن الولىَّ لا تقم له الولاية إلا إذا تم له الرضا بالقدر ولا يحزن على شىء‏.‏

والناس فى هذا الحال مختلفون، فمنهم من طبعه الجَلَد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذى يكون فى طبعه الجزع، ويملك نفسه، ويستشعر الصبر أعظم أجرًا من الذى الجَلَد طبعه، والله أعلم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ كما روى عن ابن مسعود أنه لما نعى إليه أخوه عتبة، قال‏:‏ لقد كان من أعز الناس علىَّ، وما يسرنى أنه بين أظهركم الآن حيا، قالوا‏:‏ وكيف وهو من أعز الناس عليك‏؟‏ قال‏:‏ إنى لأؤجر فيه أحب إلىَّ من أن يؤجر فىَّ‏.‏

وقال ثابت‏:‏ إن صلة بن أشيم مات أخوه فجاءه رجل، وهو يطعم، فقال‏:‏ يا أبا الصبهاء، إن أخاك مات‏.‏

قال‏:‏ هلم فكل قد نُعى إلينا إِذَنْ فَكُلْ‏.‏

قال‏:‏ والله ما سبقنى إليك أحدٌ ممن نعاه‏.‏

قال‏:‏ بقول الله‏:‏ ‏(‏إنك ميت وإنهم ميتون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وقال الشعبى‏:‏ كان شريح يدفن جنائزه ليلاً يغتنم ذلك، فيأتيه الرجل حين يصبح فيسأله عن المريض، فيقول‏:‏ هدأ، لله الشكر، وأرجو أن يكون مستريحًا‏.‏

أخذه من قصة أم سليم‏.‏

وكان ابن سيرين يكون عند المصيبة كما هو قبلها، يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت حفصة، رحمها الله، فإنه جعل يكشر، وأنت تعرف فى وجهه‏.‏

وسئل ربيعة‏:‏ ما منتهى الصبر‏؟‏ قال‏:‏ أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الصبر المحمود هو ترك العبد عند حدوث المكروه عليه وبثه للناس، ورضاه بقضاء ربه، وتسليمه لأمره، فأما حزن القلب، وحزن النفس، ودمع العين، فإن ذلك لا يُخرج العبد عن معانى الصابرين إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعله، لأن نفوس بنى آدم مجبولة على الجزع على المصائب‏.‏

قالوا‏:‏ وقد مدح الله الصابرين، ووعدهم جزيل الثواب عليه، قالوا‏:‏ وثواب الله عباده إنما هو على ما اكتسبوه من أعمال الخير دون ما لا صنع لهم فيه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها التى جبلت عليه لا يقدر عليه إلا الذى أنشأها‏.‏

والمحمود من الصبر هو ما أمر الله به، وليس فيما أمر به تغيير جبلة عما خلقت عليه، والذى أمر به عند نزول البلاء الرضا بقضائه، والتسليم لحكمه، وترك شكوى ربه، وكذلك فعل السلف‏.‏

قال ربيعة بن كلثوم‏:‏ دخلنا على الحسن، وهو يشكى ضرسه، فقال‏:‏ رب مسنى الضر، وأنت أرحم الراحمين، وروى المقبرى عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى‏:‏ إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشتك إلى عُوَّاده أنشطته من عقال، وبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل‏)‏‏.‏

وقال طلحة بن مصرف‏:‏ لا تشك ضرك ولا مصيبتك‏.‏

قال‏:‏ وأنبئت بأن يعقوب بن إسحاق، عليهما السلام، دخل عليه جاره، فقال‏:‏ يا يعقوب، ما لى أراك قد تهشمت وفنيت، ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك، قال‏:‏ هشمنى ما ابتلانى به من يوسف، فأوحى الله إلى يعقوب‏:‏ أتشكونى إلى خلقى‏؟‏ قال‏:‏ يا رب، خطيئة فاغفرها، قال‏:‏ قد غفرتها لك‏.‏

فكان إذا سئل بعد ذلك، قال‏:‏ ‏(‏إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وقد توجع الصالحون على فقد الرسول وحزنوا له أشد الحزن، قال طاوس‏:‏ ما رأيت خلقًا من خلق الله أشد تعظيمًا لمحارم الله من ابن عباس، وما ذكرته قط فشئت أن أبكى إلا بكيت، ورأيت على خديه مثل الشراكين من بكائه على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو عثمان‏:‏ ورأيت عمر بن الخطاب لما جاءه نعى النعمان بن مقرن وضع يده على رأسه وجعل يبكى‏.‏

ولما مات سعيد بن أبى الحسن بكى عليه الحسن حولا، فقيل له‏:‏ يا أبا سعيد، تأمر بالصبر وتبكى‏؟‏ قال‏:‏ الحمد لله الذى جعل هذه الرحمة فى قلوب المؤمنين يرحم بها بعضهم بعضًا، تدمع العين، ويحزن القلب، وليس ذلك من الجزع، إنما الجزع ما كان من اللسان واليد‏.‏

وقال يحيى بن سعيد‏:‏ قلت لعروة‏:‏ إن ابن عمر يشدد فى البكاء على الميت، فقال‏:‏ قد بكى على أبيه‏.‏

وبكى أبو وائل فى جنازة خيثمة‏.‏

فهؤلاء معالم الدين لم يروا إظهار الوجد على المصيبة بجوارح الجسم إذا لم يجاوزوا فيه المحذور خروجًا من معنى الصبر، ولا دخولاً فى معنى الجزع‏.‏

وقد بكى صلى الله عليه وسلم على ابنته زينب، وعلى ابنه إبراهيم، وفاضت عيناه، وقال‏:‏ ‏(‏هذه رحمة جعلها الله فى قلوب عباده‏)‏، وبكى صلى الله عليه وسلم لقتل جلة الإسلام وفضلاء الصحابة، وتوجع لفقدهم، فإذا كان المتَّبَع به نرجو الخلاص من ربنا، وقد كان حزن بالمصيبة، وأظهر ذلك بجوارحه ودمعه، وأخبر أن ذلك رحمة جعلها الله فى قلوب عباده، فقد صح قول من وافق ذلك، وسقط ما خالفه‏.‏

باب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ‏:‏ الحزن‏:‏ الْقَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ، وَقَالَ يَعْقُوبُ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، اشْتَكَى ابْنٌ لأبِى طَلْحَةَ، فَمَاتَ، وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا، وَنَحَّتْهُ فِى جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ‏:‏ كَيْفَ الْغُلامُ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ هَدَأ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ، فَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ‏:‏ فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ منها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِى لَيْلَتِكُمَا‏)‏‏.‏

قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ‏:‏ فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما من لم يظهر حزنه عند المصيبة، وترك ما أبيح له من إظهار الحزن الذى لا إسخاط فيه لله تعالى، واختار الصبر كفعل أم سليم، ومن قهر نفسه وغلبها على الصبر، ممن تقدم ذكره فى الباب قبل هذا، فهو آخذ بأدب الرب فى قوله‏:‏ ‏(‏ولئن صبرتم لهو خير للصابرين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ جواز الأخذ بالشدة، وترك الرخصة لمن قدر عليها، وأن ذلك مما ينال به العبد جزيل الثواب ورفيع الأجر‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى قول أم سليم‏:‏ ‏(‏هدأ نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح‏)‏ التسلية عن المصائب بالتعريض من الكلام الذى يحتمل معنيين، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه، ولكن ورت به عن المعنى الذى كان يحزنها، ألا ترى أن نفسه قد هدأ كما قالت بالموت وانقطاع النفس، وأوهمته أنه استراح قلقُه، وإنما استراح من نصب الدنيا وهمها‏.‏

وفيه‏:‏ أن المرأة تتزين لزوجها تعرضًا للجماع، لقوله‏:‏ ‏(‏ثم هيأت شيئًا‏)‏ إنما أراد هيأت شيئًا من حالها، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعله أن يبارك لهما‏)‏، فأجاب الله تعالى قوله‏.‏

وفيه‏:‏ أنه من ترك شيئًا لله تعالى وآثر ما ندب إليه وحض عليه من جميل الصبر أنه معوض خيرًا فيما فاته، ألا ترى قوله‏:‏ فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن بن القابسى‏:‏ إنما حملت أم سليم حين مات الغلام بعبد الله بن أبى طلحة، والتسعة الذين قرءوا القرآن هم أولاد عبد الله هذا، وروى معمر عن ثابت، عن أنس، أنه لما جامعها قالت له‏:‏ أرأيت لو أن رجلاً أعارك عارية، ثم بدا له فأخذها، أكنت تجزع‏؟‏ قال‏:‏ لا، قالت‏:‏ إن الله أعارك ابنك وقد أخذه، فالله أحق أن ترضى بفعله وتُسلم إليه، فغدا إلى الرسول فأخبره بقولها، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لهما فى ليلتهما‏)‏، فولدت غلامًا كان اسمه عبد الله، وكان من خير أهل زمانه‏.‏

ولقد أخذت أم سليم فى الصبر إلى أبعد غاية، على أن النساء أرق أفئدة، لأننا نقول‏:‏ ما فى النساء ولا فى الجلة من الرجال مثل أم سليم، لأنها كانت تسبق الكثير من الشجعان إلى الجهاد، وتحتسب فى مداواة الجرحى، وثبتت يوم حنين فى ميدان الحرب والأقدام قد زلت، والصفوف قد انقضت، والمنايا قد فغرت، فالتفت إليها الرسول وفى يدها خنجر، فقالت‏:‏ يا رسول الله، اُقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، فلبسوا بشرٍ منهم‏.‏

باب الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى

وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ نِعْمَ الْعِدْلانِ، وَنِعْمَت الْعِلاوَةُ‏:‏ ‏(‏الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏(‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى‏)‏‏.‏

إن قيل‏:‏ قد علمت أن العبد منهى عن الهُجر وتسخط قضاء الرب فى كل حال، فما وجه خصوص نزول الأولى بالصبر فى حال حدوثها‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ وجه خصوص ذلك أن للنفس عند هجوم الحادثة محرك على الجزع، ليس فى غيرها مثله، وتلك حال يضعف عن ضبط النفس فيها كثير من الناس، ثم يصبر كل جازع بعد ذلك إلى السكون ونسيان المصيبة، والأخذ بقهر الصابر نفسه، وغلبته هواها عند صدمته إيثارًا لأمر الله على هوى نفسه، ومنجزًا لموعوده، بل السالى عن مُصابه لا يستحق اسم الصبر على الحقيقة، لأنه آثر السلو على الجزع واختاره‏.‏

وإنما الصابر على الحقيقة من صبر نفسه، وحبسها عن شهوتها، وقهرها عن الحزن والجزع والبكاء الذى فيه راحة النفس، وإطفاء لنار الحزن، فإذا قابل سورة الحزن وهجومه بالصبر الجميل، واسترجع عند ذلك، وأشعر نفسه أنه لله ملك، لا خروج له عن قضائه، وإليه راجع بعد الموت ويلقى حزنه بذلك، انقمعت نفسه، وذلك على الحق، فاستحقت جزيل الأجر‏.‏

قال المهلب‏:‏ ‏(‏نعم العدلان، ونعمت العلاوة‏)‏ فقيل‏:‏ العدلان‏:‏ الصلوات والرحمة، والعلاوة‏:‏ ‏(‏وأولئك هم المهتدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 157‏]‏، وقيل‏:‏ ‏(‏إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 156‏]‏ والعلاوة‏:‏ التى يثاب عليها‏.‏

باب قَوْلِ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ‏)‏

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ الرسول‏:‏ ‏(‏تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لإبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ‏:‏ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ‏)‏، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد تقدم فى الأبواب قبل هذا بيان البكاء والحزن المباحين والمحرمين بما فيه كفاية، لكنا كرهنا أن نخلى هذا الباب من شىء من الكلام فى هذا المعنى، هذا البكاء تفسير البكاء المباح والحزن الجائز، وذلك ما كان بدمع العين ورقة النفس، ولم يكن تسخطًا لأمر الله، إذ الفطر مجبولة على الحزن، وقد قال الحسن البصرى‏:‏ العين لا يملكها أحد، صبابة المرء بأخيه‏.‏

وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى جنازة مع عمر فرأى امرأة تبكى فصاح عليها عمر، فقال النبى‏:‏ ‏(‏دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب‏)‏‏.‏

فعذرها صلى الله عليه وسلم مع قرب العهد، لأن بعده ربما يكون ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ للثكل، وفتور فورة الحزن، فإذا كان الحزن على الميت وفاء له ورقة عليه، ولم يكن سخطًا للقضاء ولا تشكيًا به، فهو مباح كما تقدم قبل هذا، لقوله‏:‏ ‏(‏إنها رحمة‏)‏‏.‏

وقال أبو الحسن بن القابسى‏:‏ قول أنس فى أبى سيف القين‏:‏ ‏(‏وكان ظئرًا لإبراهيم‏)‏ هو الذى يحتج فى أن اللبن للفحل، وقيل‏:‏ ‏(‏كان ظئرًا‏)‏ أى رضيعه وليس بشىء، لأن أبا سيف كان كالربيب، لأن فى نص الحديث ما يدل أن إبراهيم كان عند زوج أبى سيف وهو مريض‏.‏

فيه‏:‏ شدة إغراق النساء فى الحزن وجاوزهن الواجب فيه، لنقصهن، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وقد روى معمر عن الزهرى، قال‏:‏ ثلاثة من أمر الجاهلية لا يدعها الناس أبدًا‏:‏ الطعن فى الأحساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء‏.‏

وروى عن الحسن البصرى فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل بينكم مودة ورحمة‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 21‏]‏ أن المودة‏:‏ الجماع، والرحمة‏:‏ الولد، ذكره ابن وهب‏.‏

باب الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر، اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَأَتَاهُ الرسول يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ، وَعَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ فِى غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏قَدْ قَضَى‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

وَكَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا، وَيَرْمِى بِالْحِجَارَةِ، وَيَحْثِى التُّرَابِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز البكاء عند المريض، وليس ذلك من الجفاء عليه والتقريع له، وإنما هو إشفاق عليه، ورقة وحرقة لحاله، وقد بين فى هذا الحديث أنه لا يعذب بدمع العين، وحزن القلب، وإنما يعذب بالقول السيئ ودعوى الجاهلية، وقوله‏:‏ ‏(‏أو يرحم‏)‏ يحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أو يرحم إن لم ينفذ الوعيد فى ذلك، والثانى‏:‏ يريد أو يرحمه إذا قال خيرًا، واستسلم لقضاء الله تعالى‏.‏

باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ

- فيه‏:‏ عَائِشَة، قَتْلُ جَعْفَرٍ، وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ‏)‏، فَقُلْتُ‏:‏ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمِّ عَطِيَّة، قَالَتْ‏:‏ أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْعَةِ‏:‏ أَنْ لا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد تقدم معنى هذا الباب، وأن النوح والبكاء على سنة الجاهلية حرام قد نسخه الإسلام، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يشترط على النساء فى بيعة الإسلام ألا ينحن تأكيدًا للنهى عنه، وتحذيرًا منه‏.‏

وفيه‏:‏ أنه من نُهى عما لا ينبغى له فعله ولم ينته، أنه يجب أن يؤدب على ذلك ويزجر، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم للرجل‏:‏ ‏(‏فاحث فى أفواههن التراب‏)‏، حين انصرف إليه المرة الثالثة، وقال‏:‏ إنهن غلبننا، وهذا يدل أن بكاء نساء جعفر، وزيد الذى نهين عنه لم يكن من النوح المحرم، لأنه لو كان من النوح المحرم لزجرهن حتى ينتهين عنه، لأن الله فرض عليه التبليغ والبيان، ولا يؤمن على النساء عند بكائهن الهائج لهن أن يضعف غيرهن، فيصلن به نوحًا محرمًا، فلذلك نهاهن صلى الله عليه وسلم قطعًا للذريعة‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن للعالم أن ينهى عن المباح إذا اتصل به فعل محذور، أو خيف مواقعته، لأن الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، وهذا الحديث يدل أن قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث ‏(‏الموطأ‏)‏، حين دخل الرسول على عبد الله بن الربيع يعوده، فصاح به فلم يجبه، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ ‏(‏غلبنا عليك أبا الربيع‏)‏، فصاح النسوة وبكين، فجعل جابر يسكتهن، فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏دعهن، فإذا وجبت فلا تبكين باكية‏)‏، والوجوب‏:‏ الموت‏.‏

فدل أن هذا الحديث على الندب لا على الإيجاب، لأنه لو كان ترك البكاء عليه فرضًا بعد موته لما جاز لنساء جعفر أن يبكين بعد موته، ولوجب أن يقتصرن على السكوت، فلما اعترضت عائشة لرسول الله حين قالت له‏:‏ والله ما أنت بفاعل‏.‏

ومثله قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكن حمزة لا بواكى له‏)‏، فدل على جواز البكاء على الميت بعد موته‏.‏

وقول أم عطية‏:‏ ‏(‏أخذ علينا النبى صلى الله عليه وسلم ألا ننوح‏)‏ يبين أن النوح بدعوى الجاهلية محرم، لأنه لم يقع فى البيعة شىء غير فرض، وقولها‏:‏ ‏(‏فما وفت منا امرأة غير خمس‏)‏، يصدق قول النبى فى النساء‏:‏ ‏(‏إنهن ناقصات العقل والدين، وإنهن خلقن من ضلع أعوج‏)‏، ومن كان بهذه الصفة يعسر رجوعه إلى الحق وانقياده إليه‏.‏

وروى معمر، عن الزهرى، قال‏:‏ ثلاثة من أمر الجاهلية لا يدعها الناس أبدًا‏:‏ الطعن فى الأحساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء‏.‏

باب الْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ

- فيه‏:‏ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ مضى القيام للجنازة، والله أعلم، على التعظيم لأمر الموت، والإجلال لأمر الله، لأن الموت فزع، فيجب استقباله بالقيام له والجدّ، وقد روى هذا المعنى عن النبى صلى الله عليه وسلم وروى محمد بن كثير، عن الأوزاعى، عن يحيى، عن أبى سلمة، عن أبى سعيد الخدرى، قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا‏)‏، ذكره ابن أبى الدنيا، ورواه ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم وأخذ بظاهر حديث عامر بن ربيعة جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء، وسأذكرهم فى الباب بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

ورأت طائفة ألا يقوم للجنازة إذا مرت به، وقالوا‏:‏ لمن تبعها أن يجلس، وإن لم توضع، واحتجوا بحديث علىّ بن أبى طالب‏:‏ ‏(‏أن رسول الله كان يقوم فى الجنازة، ثم قعد بعد ذلك‏)‏، فدل هذا أن القيام منسوخ بالجلوس، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعى، وأما حديث علىّ فرواه مالك، عن يحيى بن سعيد، عن واقد بن عمرو، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علىّ ابن أبى طالب، قال‏:‏ ‏(‏قام رسول الله فى الجنائز ثم قعد‏)‏‏.‏

رواه شعبة عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن علىّ بن أبى طالب، قال‏:‏ ‏(‏رأينا رسول الله قام فقمنا، ورأيناه قعد فقعدنا‏)‏، فثبت نسخ الأخبار الأول بالقيام للجنازة‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وحدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا أنس بن عياض، عن أنيس ابن أبى يحيى، قال‏:‏ سمعت أبى يقول‏:‏ كان ابن عُمر وأصحاب النبى يجلسون قبل أن توضع الجنازة‏.‏

فهذا ابن عمر يفعل هذا، وقد روى عن عامر بن ربيعة، عن النبى صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، فدل ذلك على ثبوت نسخ ما حَدَّث بِهِ عامر بن ربيعة‏.‏

وحدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه‏:‏ أن القاسم كان يجلس قبل أن توضع الجنازة، ولا يقوم لها، ويخبر عن عائشة أنها قالت‏:‏ كان أهل الجاهلية يقومون لها ويقولون‏:‏ فى أهلك ما أنت فى أهلك‏.‏

فهذه عائشة تنكر القيام أصلاً، وتخبر أن ذلك كان من فعل الجاهلية، وستأتى زيادة فى هذا المعنى بعد هذا، إن شاء الله تعالى، فى باب من قام لجنازة يهودى‏.‏

باب مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ

- فيه‏:‏ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جِنَازَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا، فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا، أَوْ تُخَلِّفَهُ، أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أبو سَعِيد، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أخذ بظاهر هذا الحديث طائفة وكانوا يقومون للجنازة إذا مرت بهم، روى ذلك عن أبى مسعود البدرى، وأبى سعيد الخدرى، وقيس بن سعد، وسهل بن حنيف، وسالم بن عبد الله، وقال أحمد وإسحاق‏:‏ إن قام فلم أعبه، وإن قعد فلا بأس، ذكره ابن المنذر، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن هذا منسوخ، فإن أئمة الفتوى على ترك القيام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن لم يكن ماشيًا معها‏)‏ دليل على أن الجنازة من فروض الكفاية‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وممن رأى ألا يجلس من تبع الجنازة حتى توضع عن مناكب الرجال‏:‏ أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، والحسن بن على، والنخعى، والشعبى، والأوزاعى‏.‏